إيران "الضائعة" مفاجأة غزّة هوت بها إلى نقطة اللاعودة
رفعت حاجي
تنظر إيران بعين قلقة إلى مسار مفاجئ وخارج الحسابات قد يؤدّي إليه إنهاء الحرب في غزّة، لأن إيقاف الحرب في غزّة يغلق ملفّاً إيرانيّاً لطالما نهلت منه خطاباً نشرته لدى فصائلها التابعة في المنطقة، وأسّست على قواعده تيّار الممانعة العابر للحدود.
ترحاب سيّد البيت الأبيض بشكل فوريّ بردّ (حماس) دون أن يكترث بالالتباس الذي شاب بيان الردّ، قد يرفع احتمالات مواجهة إيران عسكريّاً، ملوّحة بخسارة لنفوذها بدءاً من تقويض نفوذ حزبها في لبنان، وأضعاف نفوذ فصائلها في العراق، والحد من قوّة جماعتها في اليمن، فقدانها السيطرة على سوريا (المركز الأساسيّ لـهلالها ما بين طهران وبيروت) بشكل نهائي، لترى نفسها في عزلة غبر مسبوقة تعبث بأمنها، وأفقدتها الهيمنة على مساراتها.
تجد إيران نفسها خارج "النادي الإقليميّ" وتجد أنّ انشغالها بـ(آليّة الزناد) والعلاقة مع (الوكالة الدولية للطاقة الذرّية) وعودة العقوبات الأمميّة الشاملة من جديد.. إلخ، يجعلها خارج مجالات الفعل.
اعتادت طهران طوال العقود الماضية لتقديم نفسها رقماً صعباً في كلّ ملفّات المنطقة، لكن باتت تجهد في تخليص ملفّها الذاتي من تعقّد يتفاقم، وتفقد القدرة على الاستعانة بمواهب ميليشياتها وجماعاتها في المنطقة، بما في ذلك تلك التي كانت تحكم قطاع غزّة وتتحكّم به.
المفاجأة أنّ حركة حماس التي كانت لأشهرٍ مضت محسوبة على نفوذ طهران ردّت بإيجابيّة نسبيّة مبكراً، أي قبل انتهاء مهلة دونالد ترامب للحركة لإعطاء الردّ، وشكرته على جهوده، وبات جدل السلاح في غزّة محسوماً، والحركة قبلت بالانسحاب، وخطّة ترامب يمهّد الطريق لمسار منطقيّ وحتميّ سيطال سلاح الحزب في لبنان "ولو بعد حين"، ويمهّد لمصير مماثل لأسلحة الفصائل والحشد في العراق، وسقوط بدعة الميليشيات، لتفقد طهران كثيراً من زمام المبادرة الذي كادت تحتكره.
من جانب آخر تترسخ تساؤلات عميقة حول عرض ترامب إمكانية التوصّل إلى اتفاق بين إسرائيل وسوريا، مقابل موافقة إسرائيل على إنهاء الحرب في غزة - حسب ما نشرته صحيفة "إسرائيل هيوم"، نقلا عن مصادر مقربة من البيت الأبيض. وإعلان وزارة الدفاع السورية، وقفاً شاملاً لإطلاق النار بكافة المحاور ونقاط الانتشار العسكرية شمال وشمال شرق سوريا ولقاءات مظلوم عبدي في العاصمة دمشق، كل هذا بالتزامن مع قرار زعيم حزب العمّال الكوردستاني في تركيا عبدالله أوجلان حلّ الحزب وتسليم سلاحه.
كانت طهران حريصة على إبلاغ العالم بانتهاج المسار الدبلوماسي ومسار التفاوض، كحل وحيد لأزمة ملفها النووي في لحظة فارقة بدت ترتبك متأمّلة قرب انتهاء (نكبة) غزّة.
لم يكن ذلك مجرد تعبير عن موقف تفاوضي، بل كشف عن مرحلة جديدة في طريقة تفكيرها التي تحاول أن توازن بين خطاب الانفتاح الدبلوماسي والمأزق الذي أوقعت بها، بالمماطلة لكسب الوقت، للمضي نحو فرض واقع نووي جديد .
ما تحتاجه إيران -التي لم تستفد من أي اتفاقات سابقة بسبب القيود على النظام المصرفي- اليوم هو اتفاق جديد بشروط جديدة، يقوم على قاعدة "خطوة مقابل خطوة"، أي أن تقدم إيران تنازلات محددة فقط مقابل إجراءات ملموسة من الغرب، وهذه الصيغة استراتيجية تقوم على كسب الوقت وإعادة التفاوض إلى المربع الأول كلما اقتربت الأطراف من الحسم.
أي تفاوض جديد لن يجلب لطهران مكاسب اقتصادية ملموسة ما دامت العقوبات الأميركية على البنك المركزي وقطاع الطاقة قائمة.
بدأت إيران محاولة التكيف مع العقوبات، عبر قنوات مالية غير رسمية وشبكات تصدير خفية، إلا أن الواقع الداخلي يشير إلى هشاشة متزايدة في الاقتصاد، وتراجع العملة، وتضخُّم مفرط يثقل كاهل المواطن الإيراني، لذلك، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات بالنسبة لطهران ليست استسلاماً، بل وسيلة لتخفيف الضغط دون تقديم تنازلات جوهرية.
بالنسبة لها، المفاوضات ليست ساحة تنازل فحسب، بل فرصة للبقاء بعد بتر أذرعها العسكرية في المنطقة، فأي اتفاق يجب أن يُبنى على مبدأ ومرحلة مقابل مرحلة، بينما التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية محكوم بانعدام الثقة، فإيران ترى أن الوكالة تتصرف كذراع استخباري غربي، فيما تؤكد الوكالة أن إيران ما زالت ترفض الشفافية الكاملة، وبين الاتهامين، يظل الملف النووي في حالة جمود.
الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، لم تعد تبحث عن "احتواء" إيران، بل عن تحالف دولي جديد لإيقافها قبل أن تبلغ مرحلة امتلاك السلاح النووي، فالمعادلة تغيّرت، حيث الغرب لم يعد مستعداً للتعايش مع أي برنامج نووي إيراني، مهما كان محدوداً، كما أن روسيا، "المنهمكة في حربها في أوكرانيا"، لن تدخل مواجهة مباشرة دفاعاً عن إيران، وبذلك، فإن مراهنة طهران على مناوراتها الأخيرة التي أوقعت بها في نقطة اللاعودة، لا توفر لها غطاءً دبلوماسياً في حال اندلاع مواجهة عسكرية.
إيران تدرك حجم المأزق الذي تواجهه، غارقة بين رغبة البقاء تحت المظلة الدبلوماسية، وخشية مواجهة حتمية واستخدامها كدرع سياسي، وأن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيداً غير مسبوق سياسياً وربما عسكرياً..