سقوط اليسار وصعود الشعوب
تورين شامدين
في إطار التحولات السياسية الكبرى التي يشهدها العالم، تتجلى ملامح جديدة لعالم ما بعد اليسار التقليدي، الذي شهد تراجعاً ملحوظاً على الساحة العالمية. لقد فقد اليسار الكثير من نفوذه وتأثيره، وأصبح جزءاً من التاريخ، ليترك الساحة مفتوحة أمام قوى جديدة تعبر عن إرادة الشعوب في تقرير مصيرها بعيداً عن قيود الإرث الاستعماري القديم.
على الرغم من أن اليسار كان ينظر إليه ذات يوم كحامل لراية العدالة الاجتماعية والحرية، إلا أنه خلال السنوات الأخيرة، تجلى ضعفه في مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عصفت بالعديد من البلدان. ومع تصاعد القوميات والمطالب الشعبية، بدأ اليمين الصاعد يظهر كقوة جديدة تسعى إلى استعادة السيادة الوطنية والتأكيد على هوية الشعوب. وهذا التحول يتجاوز الحدود التقليدية ليتبنى نهجا قائما على حقوق الشعوب والسيادة الحقيقية.
في قلب التحولات الجذرية التي نشهدها اليوم، تقف اتفاقية سايكس بيكو، التي وقعت عام 1916 كإحدى أهم العوامل التي ساهمت في تشكيل خريطة الشرق الأوسط الحديثة. فقد أرست هذه الاتفاقية الأساس لأنظمة سياسية شديدة الهشاشة، اعتمدت على التجزئة والتقسيم، مما أدى إلى نشوء نزاعات عرقية وطائفية عميقة.
اليوم، يبدو أن تلك الأنظمة، التي استمدت شرعيتها من القوى الاستعمارية، بدأت في التفكك. سقوط الأنظمة التقليدية، سواء أكانت قومية أو دينية، يعكس رغبة شعوب المنطقة في التحرر من القيود التي فرضتها الاتفاقيات الاستعمارية. فالشعوب، التي عانت لعقود من الظلم والاستبداد، لم تعد تقبل بالاستمرار كأدوات في يد القوى الكبرى، بل تتطلع إلى استعادة حقوقها واستقلالها.
مع تراجع اليسار، بدأت قوى اليمين القومي في التقدُّم، مدفوعة برغبة عميقة في استعادة الهوية الوطنية والسيادة. في كوردستان، على سبيل المثال، يمثل الكورد نموذجًا صارخًا على هذه الانتفاضة. تاريخيًا، عانت هذه المنطقة من القمع والتهجير، ولكن مع صعود الوعي الوطني، بدأت أصوات المطالبة بحقوق الكورد في تقرير مصيرهم تتعالى.
يتمثل الصعود الجديد في الدعوة إلى سيادة حقيقية بعيداً عن سيطرة القوى الخارجية. هذا لا يعني العودة إلى العزلة، بل التوجه نحو عالم قائم على الاحترام المتبادل والتعاون بين الدول. هذا التوجه يشمل الكورد والعرب والفرس وغيرهم من القوميات، مما يعكس رغبة الشعوب في تحقيق توازن جديد يضمن حقوق الجميع.
لا يمكن الحديث عن التحوُّلات الجذرية في الشرق الأوسط دون التطرُّق إلى دور إسرائيل. لقد كانت إسرائيل على مدى عقود واحدة من أبرز القوى الإقليمية التي شكلت توازنات القوى في المنطقة. في البداية، يمكن القول إن إسرائيل استفادت من الفوضى التي نشأت بعد الربيع العربي والصراعات المستمرة في المنطقة.
تسعى إسرائيل إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط من خلال التحالفات مع بعض الأنظمة العربية، خاصة تلك التي تشاركها القلق من إيران. هذه التحالفات تخلق نوعاً من التوازن، ولكنها أيضاً تعكس سياسة استباقية تهدف إلى حماية أمنها القومي. ومع ذلك، يبقى السؤال حول كيفية تعامل إسرائيل مع القضايا القومية للشعوب العربية، بما في ذلك الكورد.
في السنوات الأخيرة، بدأ الحديث عن إمكانية إقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل والكورد، في ظل الوضع المتأزّم في العراق وسوريا. يظهر هذا التوجُّه كفرصة لتعزيز الهويّة الكوردية ومكانتها في الصراع الإقليمي، ولكنه أيضا يحمل مخاطر تتعلق بتقوية الصراعات في المنطقة. هل ستستغل إسرائيل الوضع لتوسيع نفوذها على حساب القضايا القومية؟
على الرغم من الصعود الجديد لليمين الوطني، فإن التحديات لا تزال قائمة. تحاول القوى التقليدية استعادة السيطرة، سواء من خلال فرض السياسات الاستبدادية أو عن طريق التدخل العسكري. تشكل النزاعات الإقليمية، والصراعات الأهلية، وغياب الاستقرار الاقتصادي، عوائق أمام تحقيق العدالة والسلام.
تسعى الشعوب إلى تعزيز وحدتها والتمسك بحقوقها، لكن الطريق لا يزال مليئًا بالعقبات. تحتاج هذه التحوُّلات إلى دعم دولي حقيقي، لضمان تحقيق حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. سيكون على المجتمع الدولي أن يدرك أهمية تعزيز السيادة الوطنية كشرط أساسي للاستقرار في المنطقة.
إن مستقبل الشعوب في المنطقة يعتمد على قدرتها على تجاوز الحدود القديمة التي رسمتها القوى الاستعمارية. يجسد هذا المستقبل فرصة لتعزيز حقوق الشعوب وضمان سيادتها الحقيقية. ولكن، سيتطلب ذلك كفاحا مستمرا ضد القوى التي تسعى إلى إعادة إنتاج الأنظمة القديمة.
يجب على الشعوب أن تعمل معاً، بغضّ النظر عن خلفياتها العرقية والدينية، لبناء مستقبل مشترك قائم على الاحترام المتبادل والحقوق المتساوية. وفي الوقت نفسه، يتعيّن على القوى الإقليمية والدولية أن تعي أن استقرار المنطقة لن يتحقق إلا من خلال الاعتراف بحقوق الجميع.
يبدو أن التحولات الجذرية التي تشهدها المنطقة تشير إلى نهاية عصر سايكس بيكو وظهور عصر جديد من السيادة والحقوق الشعبية.
إن الصعود الجديد لليمين القومي وتراجع اليسار يعكس رغبة عميقة في استعادة الهوية والسيادة. في خضم هذه التحولات، تظل قضية الكورد محورية، حيث يمثلون رمزًا للكفاح من أجل الحرية والاستقلال.
من خلال تجاوز التحديّات وبناء التحالفات، يمكن للشعوب في الشرق الأوسط أن تشق طريقها نحو مستقبل مشترك قائم على العدالة والاحترام المتبادل. ومع استمرار التحوُّلات العالمية، يبقى الأمل قائماً في إمكانية تحقيق نظام عالمي جديد، يضمن حقوق جميع الشعوب، ويؤسس لعالم أكثر عدالة وسلاماً.