المغتربون: أرواح معذبة في أجساد تبدو مرفّهة

المغتربون: أرواح معذبة في أجساد تبدو مرفّهة

هنر بهزاد جنيدي

لقد أحببت، واحترمت نجيب محفوظ الإنسان، لأنه كان رافضاً لفكرة السفر من مصر رفضاً قاطعاً بكلّ أشكالها وتسمياتها، ولم يخرج من مصر طوال سنوات عمره التي تجاوزت التسعين سوى لأيام قليلة. حتى عند استلامه جائزة نوبل في الأدب، أرسل من ينوب عنه، ولم تجذبه أضواء نوبل لمغادرة بلدته.
وبصورة مشابهة، أحببت واحترمت طيب تيزيني الإنسان والمفكّر الذي قضى سنوات طويلة من عمره خارج سوريا، لكنه بعد نشوب الحرب وخراب البلاد أصرّ على العودة إليها، وقرر عدم مغادرتها، ومكث فيها حتى توفي، ودُفن فيها.
ومثل نجيب محفوظ وطيب تيزيني وغيرهم كثيرون لا يُعدّون ولا يُحصَون، ممن لم يفتهم ما فاتنا، فأدركوا ما ينتظرهم من تعب الأجساد وآلام الذاكرة، فجنّبوا أرواحهم عذابات الشوق وهلاك الروح.
الغربة تعرية للروح أمام صقيع الاشتياق لكل التفاصيل الصغيرة التي شكلت ذواتنا المبهمة.
لن يستوعب معاني هذا المقال من سافر واغترب وهو دون الخامسة والعشرين من عمره. أولاً، لأن الذاكرة قبل هذا العمر ما تزال لينةً وطريّة، ويسهل على المرء ترويضها وحتى مسحها. ثانياً، ما زالت بحوزة هذه الفئة فسحة كافية من الوقت، بمقدورها بناء ذاكرة جديدة في العوالم والبلاد التي هاجرت إليها. أما الآخرون أمثالنا، فهذه الهواجس والآلام والمخاوف تمثلنا.
نحن لا نقصد هنا السفر والاغتراب المؤقّت للسياحة أو الدراسة أو العلاج، إنما الحديث هو عن الهجرة الدائمة أو التي تستمرُّ سنوات طويلة.
الهجرة الأبدية والدائمة عن الأوطان هي من أسوأ وأخطر القرارات التي قد يضطر الإنسان إلى اتخاذها في حياته.
فالروح لا تهدأ في الغربة، والنفس لا تسكن فيها بأمان. تنام غريب الروح، وتقضي يومك غريباً، وتعيش حياتك غريباً، وتموت غريباً. حتى قبور المغتربين حين أزورها، لا يحزنني موتهم بقدر ما يحزنني اغتراب أرواحهم وأجسادهم في مقبرة لا تعرفهم، ولا يعرفونها.
أجدادنا لم يجرّبوا مدناً كثيرة، ولم يضطروا لتعلُّم لغات جديدة. لم يسكنوا سوى منازلهم التي وُلدوا فيها، ومنهم من توفي في الركن نفسه الذي أطلق فيه صرخة الولادة. أجدادنا كانوا أكثر رفاهية وراحة منا؛ كنا نعتقد أن المُرفَّه هو الذي يملك القدرة على السفر والتنقل والتغيير، لكننا لم نكن نعلم أن الحقيقة هي الصورة المعكوسة تماماً. فمن أغنى من رجل استطاع أن يقضي جل أطوار عمره في قرية واحدة أو مدينة واحدة! ومن أكثر راحة من إنسان يملك ذاكرة بلون واحد وذكريات بمشهد واحد، يموت دون أن يذوبه الحنين أو تقتله الذكريات البعيدة!
فالمُرفَّه هو الذي يحترم روحه ولا يهلكها في محطات الغربة والشوق. فلو كان الاغتراب رفاهية، لما كانت وصية المغتربين بعد طول سفر أن تُعاد أجسادهم ليُدفنوا في جوف تلة من تلال القرية التي هربوا منها يوماً.
المغترب الذي لم يجد في المهاجر الأمان والطمأنينة والسعادة التي كان يسعى إليها، غالباً ما يعاني من نوع من الانفصام الداخلي، إذ يبقى في حيرة دائمة حول هويته الحقيقية: هل هو هذا الجسد المقيم معه في المهجر البعيد، أم هو الروح التي تركها خلفه هناك في المنبت حيث كانت ولادتُه، وفطامُه، بيتُه الأول صديقه الأول، حبه الأول، وضحكته ودمعته الأولى!
للحروب آثارْ كارثيةٌ وربما واحدة من أقسى هذه الكوارث هي إجبار الشخص منا على هجرة حواضنه الروحية والاجتماعية حيث تنتشلنا منها الحروب انتشالاً لتقتلنا حزناً في مكان آخر.