أوقات مع الكتابة
هنر بهزاد جنيدي
كنت أتمنّى دائماً أن أكون عازفاً لآلةٍ موسيقيةٍ وما كان ليهمني إن كنتُ عازفاً ماهراً أو فاشلاً! ولكن يشاء القدر أن يعوّضني الله عن موهبة العزف على الأوتار بحب العزف على الكلمات، وكالعزف والموسيقا سأترك نفسي على سجيتها واستمتاعها بالكتابة دون أن أسأل نفسي عن قيمة ما أكتب أو مستوى ما أكتب!. الكتابة هي هندسة للأفكار والمعلومات، فذهن الكاتب عبارة عن آلة حية تتفاعل في باطنها الأخبارُ والأفكارُ والتجاربُ لتنصهرَ مع بعضها البعض لتكوِّن معادلة هلاميَّة وخارطة عنكبوتية متشابكة في البداية، ثم تأتي التجربة الكتابية محاولة خلقها نصيّاً وتنظيمها سرديّاً وربطها منطقيِّاً. فالكتابة محاولة ترتيب لفوضى الذاكرة ولملمة لشتات الروح، الكتابة تواصلٌ ذهنيٌّ وفكريٌّ بينك وبين نفسك وبينك وبين الآخرين ، هي رسالةٌ عامةٌ يتلقفها المئات من الأشخاص وربما الآلاف من القرّاء بمختلف الانتماءات والمشارب وفي النهاية يتشارك الجميع في كتابة الأسطر الأخيرة منها سواء أكانت هذه الرسالة خاطرة أو مقالة أو كتاب، الكتابة هي صورة لعقل الكاتب وانعكاس لمرآته الفكرية ، فمن خلال النص يكتشف القارئ الأناقة الروحية والأصالة الفكرية للكاتب أو العكس لأن الكتابة عملية عرض ونشر للغسيل الفكري والأخلاقي للكاتب، الكتابة مهنةٌ مقدّسة للمتفرغ المحظوظ الذي يقسم يومه كاملاً بين ساعات للقراءة وأخرى للتأمُّل وجزء للبوح والكتابة، ويمتلك منابر مقروءة للنشر، وأيضاً هي هواية نبيلة لأمثالنا من المنشغلين بمهن حياتية أخرى بعيدة عن عوالم الكتابة وأجوائها حيث لا يصح لنا زيارة محراب الكتابة إلا سويعات قليلة نسرقُها من ضغوطات مهننا الأساسية، ومن انشغالاتنا الحياتية الأخرى . هذه المقالة الخامسة والعشرون في جريدة وهي جريدة « ثقافة وحياة « كوردستان، زاوية نصف شهرية، أي بإمكاننا اعتبار هذه المقالة سنوية الزاوية والتي اخترت لها هذا الاسم الفضفاض الخواطر والأفكار والمواضيع التي قد تشدّني رغبة الكتابة فيها، فبإمكان عنوان الزاوية أن يقيّد حرية الكاتب في اختيار العناوين والمواضيع، ومن يتصفّح عناوين المقالات ومضامينها سيتبيّ له هذا التنوع وأنها موزعة على محاور يمكن تصنيفها.
المحور الأول: قد تناولتُ فيه فلسفة العيش الحكيم وحاولت من خلاله تقديم بعض الأفكار الفلسفية وبعض
النصوص الأدبية التي تقوّي الصلابة الروحية والثبات النفسي لدى المرء في مواجهة آلام الحياة القاسية و الكثيرة، روّجت في هذا المحور لأفكار تدعونا إلى تبني ثقافة التحمُّل والإيجابية في كل ظروف ومراحل الحياة للمحافظة على توازننا الروحي والعقلي أمام تقلبات الحياة القاسية والحتمية.
الثاني: محور التنوير الفكري، سلطت الضوء فيه من خلال بعض المقالات على ضرورة تحرير عقولنا من الأفكار البالية التي زرعتها الأسرة والقبيلة والقومية والأديان في عقولنا خلال مرحلة براءتنا الروحية والعقلية ، اكتسبناها دون دراية أو تفكير، فلا بد من امتلاك الجرأة لمراجعتها ونقدها والتخلّص من مخلفاتها التي تعيق حرية تفكيرنا، وتتحكم في مصائرنا وغالباً تكون هذه المعوقات أعرافاً اجتماعية متخلفة أو أصناماً سياسية متجبرة علينا أو معتقدات دينية مزيّفة تعيق تحررنا وتقدّمنا الإنساني .
المحور الثالث: كانت مواضيعه موزعة بين تجديد ذكرى بعض الشخصيات المحلية والعالمية الرائدة
والتي كانت لها بصمات خاصة في مجالاتهم، وتركوا مكانة خاصة في قلوب محبيهم وبين بعض المقالات الوجدانية والذاتية القريبة من أدب اليوميات والمذكرات الثقافية مع الكتب والأفكار والمكتبات .
يبقى هنا أن أقول بأني قد ترجمتُ بعض هذه المقالات إلى اللغة الكردية ونشرتها في وتوقفت حالياً عن الترجمة « ولاتى مه « موقع إلا أن مشروعي المتواضع بترجمة جميع مقالاتي الحالية وكتاباتي المستقبلية إلى اللغة الكردية سيبقى قائماً وفاءً للغتي القومية وإيماناً بحاجة المكتبة الكردية لمثل هذه المواضيع لعلها تشغل ولو فراغاً بسيطاً صغيراً داخل الشواغر الكبيرة في المكتبة الكردية و التي تحتاج جهوداً جبارة فوق طاقة الكتاب والمؤلفين لتكبر وتتسع .