كوباني ... وفرحة لم تكتمل!!
محمد زنكنة
سأكون عاطفياً في الحديث هذه المرة لأنني عايشت تلك الأيام لحظة بلحظة مع أنى لم أكن في قلب الحدث، أحداث بدأت بحزن وقلق، وانتهت بفرحة كبيرة، إلا أنها كانت قصيرة، ولم تدم والجميع يعلم من هو السبب في ذلك؟!
الموضوع قديم بعض الشيء لكن المتابعة الجادة بدأت من انتفاضة قامشلو لعام 2004 مروراً بأحداث الثورة السورية وصولاً لمابعد دخول جبهة النصرة لمناطق من سوريا وتحديداً من روجافا ومجزرة عامودا وحصار كوباني وتحريرها، وماحصل بعد ذلك من مجزرة يندى لها الجبين انتهاءً بأحداث عفرين وسري كانييه، وگرێ سپی، وأغلب ماذكرته مُدوّن في ذكرياتي.
كلمة السر في هذا الموضوع هو الفنان الراحل محمد شيخو ابن قامشلو والفنانة هوزان درويش ابنة كوباني، شيخو سمعت صوته وأغانيه لأوّل مرة عندما كنت في العاشرة من عمري، وعلمت أنه من قامشلو، ومنذ ذلك الحين بدأت أقرأ، وأبحث عن الوجود والتاريخ الكوردي في الجزء الغربي الملحق بدولة سوريا، تلك الدولة التي لم ولن تنظر أبداً للكوردي كإنسان، وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي وبأغنية عن القائد الخالد مصطفى بارزاني سمعت صوت الفنانة هوزان درويش لأول مرة وعلمت أنها من مدينة كوباني والتي تسميها الدولة السورية بـ(عين العرب) ليتضاعف فضولي تجاه تاريخ وتسمية وطبيعة هذه المدينة.
في عام 2005 وأثناء إحياء الذكرى الأولى لانتفاضة قامشلو(مدينة محمد شيخو) زاد ميلي لمتابعة هذه القضية، واكتسبتُ خبرةً كبيرةً عن طريق إخوة وأصدقاء صحفيين من غرب كوردستان، وحرصت على أن أكون حاضراً دوماً في أغلب التّجمُّعات والاجتماعات والندوات والمؤتمرات المتعلّقة بالوضع الكوردي في سوريا والمستجدّات في الوضع السوري وخصوصاً بعد أن توليتُ مسؤولية قسم أحداث اليوم في صحيفة (خَبات).
بعد احتلال إرهابيي داعش للموصل وتمدُّدهم نحو أكثر من محافظة سنية في العراق واحتلالهم لسنجار وتهديدهم المباشر لإقليم كوردستان، حُوصِرت كوباني في الثالث عشر من أيلول لعام 2014 وكان هذا الخبر محزناً جداً، وذا وقعٍ شديدٍ على نفسيتي وخصوصاً أن هناك أياديَ خفيةً ادّعت حمايتها للمنطقة كما فعلت مع سنجار، فقد سهّلت هذا الموضوع (والعاقل يفهم من؟ وماذا أقصد؟).
وبعد ساعات معدودة من هذا الحصار واحتلال العديد من قرى هذه المدينة، أفرحني كثيراً خبر دخول مؤسسة البارزاني الخيرية لإيصال المساعدات الإنسانية، كان هذا الخبر بمثابة القوة التي رفعت من الروح المعنوية للكثير من الصحفيين المتابعين لهذا الحدث مع أنني أتذكّر أن بعض الصحفيين كانوا يستهزئون بما حصل في كوباني، ويردّدون جملة واحدة: سيكون مصيرُها مصيرَ سنجار، لا تستعجلوا، وخافوا على أربيل والسليمانية وكركوك، كثير من الجدل والمشادات كانت تحصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانًا في التجمُّعات الصحفية، وللأسف أغلب المستفزين كانوا من الصحفيين الكورد أو المحسوبين على الكورد وكنت مجبراً على كتم غضبي لإن الأجواء العامة لم تكن تتحمل المزيد الاستفزازات.
في ذلك الوقت كنت أترجم الاخبار الخاصة بالرئيس مسعود بارزاني ونصوصها كانت ترسل إلي من رئاسة إقليم كوردستان وبعد أن قرات بياناً للرئيس يبين فيه أن الإقليم على استعداد لارسال قوات البيشمركة لكوباني لتشارك مع المقاتلين الكورد الموجودين في تلك المناطق في تحرير المدينة أي أن البيشمركة والـPKK سيكونان في خندقٍ واحدٍ لتحقيق هدف مشترك، وفي جزء آخر من كوردستان، شعرت أن يديّ تحولتا لآلة خارقة، وأكملت ترجمة الخبر في وقت قياسي، واذكر أنني نشرت نص الخبر في مجاميع التواصل الاجتماعي حتى قبل أن ينشر في الموقع الخاص لرئاسة الاقليم، الفرحة كانت كبيرة، وشعرت أنني دخلت في تحد كبير مع مَن كانوا يراهنون على السقوط الكامل للمدينة، وما لفت انتباهي في ذلك الوقت، وعلى الرغم من سيل الاتهامات بين الحكومة العراقية وتركيا حول مسالة إيواء داعش ودعمهم وايواء الـPKK ودعمهم والخلافات العميقة بين تركيا ودول الخليج والعديد من الدول العربية، دور الرئيس مسعود بارزاني وببراغماتيته التي اعتدنا عليها في إقناع تركيا للسماح بمرور قوات البيشمركة عبر الحدود البرية بين إقليم كوردستان وتركيا وصولاً إلى كوباني، هل تتخيلون ذلك؟ قوة من البيشمركة تابعة لكيان كوردي تتعامل معه الحكومة التركية بتحفُّظ وحساسية تمرُّ عبر أراضي تركيا، ياترى مَن مِن القادة استطاع ان يفعلها؟
قبل تنفيذ هذه الخطة أرسلت وزارة البيشمركة وعن طريق طائرة هليكوبتر كمية من السلاح الخفيف لكوباني وأنزلتها في نقطة كانت تسيطر عليها القوات المتواجدة في المدينة، وأخذ هذا الموضوع صدى واسعاً لدى وسائل الاعلام الكوردية والعربية والعالمية بين مؤيّد ومعارض ومستاء وخصوصاً لدى الإعلام العراقي الذي عدَّ الموضوع خروجًا من الخضوع العسكري لقوات البيشمركة للمنظومة الدفاعية العراقية.
ماكان يثير الضحك إن بعض الاحزاب (الكوردية طبعًا) كانت تنفي أن يكون السلاح المرسل هو من البيشمركة، وكانت تنسب الفضل إليها، ولإنهاء هذا الجدل أجريتُ لقاءً مع الفريق جبار ياور والذي كان أميناً عاماً لوزارة البيشمركة ومتحدثاً باسمها حيث أكد وبالدليل القاطع أن هذه الأسلحة تابعة لقوات البيشمركة نافياً كل الادّعاءات السابقة.
وما يثير السخرية حقاً أن هذه الأحزاب كانت تطالبُ بضرورة مشاركة البيشمركة في تحرير كوباني، وبكل إلحاح، وتعدُّ هذا الموضوع تحدياً لتركيا لكنها وبعد القرار التاريخي لبرلمان كوردستان في 22 اكتوبر 2014 بالموافقة على إرسال البيشمركة لكوباني والذي أسعد قلب كلّ كوردي مؤمن بقضيته نشرت قناة تابعة لإحدى هذه الأحزاب تقريراً خبرياً تسأل فيه: ماهي ايجابيات (وسلبيات) إرسال قوات البيشمركة إلى كوباني متناسين ماكانوا ينشرونه يومياً، أما إعلام الـPKK فلم يعر أيَّ اهتمامٍ لهذا الموضوع.
اللحظة التاريخية كانت بانطلاق البيشمركة نحو كوباني ووصولهم إليها في 31 اكتوبر 2014 كانت ساعات شعرتُ فيها حقاً بكورديتي، الجندرما التركية المرابطون على الحدود كانوا ينظرون بريبة للبيشمركة، نظراتهم كانت تفيض بآلاف من الكلمات والسيناريوهات والأسئلة، وكأنهم لايصدّقون أن قوة كوردية تحمل علم كوردستان تمرُّ من حدود دولتهم دون أي حرب أو مناوشات عسكرية، وما أعجبني حقًا جملة من صحفي تركي يعمل في أربيل لن انساها أبدًا حيث قال: (إنه بارزاني.. ساحر السياسة).
استمرت المواجهات إلى الـ26 من يناير 2015 حيث حررت كوباني، وبين لحظة وأخرى كنت أنشرُ أخباراً ترجمتها من الكوردية أو التركية أو الانجليزية للغة العربية، وأنشرها في المجاميع الاليكترونية، وأذكر وبكل فخر وكبرياء أن البيشمركة والكريلا تمكنوا من صدّ هجمة أو المبادرة بهجمة أو إحباط عمل غادر، ردود الفعل كانت مختلفة، وأذكر أن من لم يعجبهم الموضوع كانوا يبعثون لي برسائل خاصة يتهموني فيها بالمبالغة في سرد الأحداث لكنّي لم أكن أرد عليهم، وكنت أقول جملة واحدة فقط: تابعوا الأخبار، وقارنوها مع ما أكتب، والعجيب أن الإعلام الحكومي التركي كان يتناول الموضوع بكلِّ إيجابية، وأذكر أنني شاركتُ في برنامج حواري عبر قناة TRT العربية مع د.ادموند غريب وتحدثنا بالتفصيل حول حيثيات هذا الموضوع.
أتذكّر جيدًا كيف كنا نستقبل مقاطع الصور والفيديو لعودة قوات البيشمركة بعد انتهاء مهمتها في كوباني حيث انتهت مهمتهم في 29 آذار 2015 وعادوا الى كوردستان في 18 نيسان من ذات العام، لم أكن اسيطر على دموعي لأنها كانت لحظات تاريخية لا توصف.
لكنني لم أكن أتوقّع ولو للحظة أن تكون هذه الأحداث بمثابة هدوء ماقبل العاصفة، وقد صدّق المثل القائل إن سوس الشجرة ينمو من ذات الشجرة، وهذا ماحصل فعلاً في 25 حزيران 2015.
كان ذلك اليوم محبطاً بشكل يستحيل وصفه، كان كالصدمة التي أسكتتني دون أن أنطق بأية كلمة، الأسئلة كانت تتكرّر بشكل رهيب كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ ومن السبب؟ وكيف حصل ذلك؟ من الذي فتح الأبواب لإرهابيين أزهقوا أرواح العشرات من المدنيين الأبرياء الذين لم تكتمل فرحتهم بعد بتحرير مدينتهم؟ لمَ سكتوا عن جرائم كانت تُرتَكب أمام أعينهم دون أية حركة؟ والأغرب أنهم كانوا يصرخون: لا تخافوا لم يحصل شيء.. اخرجوا من بيوتكم اذهبوا إلى أعمالكم، نحن سنحميكم.!!
كنت أسال: أين الحماية؟ كل مَن كان يخرج من بيته يعود جريحًا أو محمّلاً على تابوت خشبي، أو يدفن دون أن يعرف له أي اسم أو عنوان؟ أين المقاومة؟ وكيف تم الاختراق؟
في يومها رفضت الحديث تماماً عن هذا الموضوع لأية قناة أو وسيلة إعلامية لانني كنت أعلم جيداً أن أصحاب الشأن هم السبب في ذلك ولم يسمح لي ضميري الكوردي أن أخرج، وأتّهمُهم علناً بهذه الجريمة، ولم يسمح لي تكبري وكبريائي الكوردي أن أنسف فرحة الملايين من الكورد بنصر تحقق بسواعد كوردية، وبوحدة قوتين كورديتين، ولم أكن أريد أن أرى نظرة الشماتة في عيون مَنْ كانوا يراهنون على عكس ماكنّا نريد، لكنني راجعت التاريخ وعلمت أنهم، ومن هم على شاكلتهم كانوا، ومازالوا مفسدين لأية فرحة كوردية، فهم من حاربوا تجربة إقليم كوردستان، وهم من عرقلوا المؤتمر القومي الكوردي!! وهم من أعطوا الحجّة للحكومة التركية لإيقاف الانفتاح تجاه الكورد.. وهم من أفسدوا اتفاقيتي أربيل (1و2) ودهوك، وهم أيضًا من اغتالوا قيادييهم المطالبين بصلح وسلم كوردي – كوردي.
نعم كانت فرحة، لكنها لم تدم طويلاً كانت فرحة سلبت في وضح النهار من وجوه الفرحين بالنصر على تنظيم لم يفرق بين كوردي وكوردي في إرهابه، هم ضيّعوا أغلب الفرص للتقارب وتحقيق مكاسب قومية ووطنية بتوحيد المواقف السياسية والعسكرية لكنني ومع كل ذلك لم أفقد الأمل، ومازلتُ متفائلًا، ومازلت أرى في كوباني مدينة اجتمع فيها الدم الكوردي دون الاكتراث لحدود صنعتها اتفاقات الدول المستقوية.
*مقتطفات من مشروع كتاب بعنوان (لا ديّة للخائن) مازال العمل فيه مستمراً.