رسائل من أبي

رسائل من أبي

هنر بهزاد جنيدي

«والتقيت بأبي!» كان عنواناً لمنشور قصير قبل أكثر من عشر سنوات كنت حينها مدرساً في إقليم كوردستان، كتبتها حين وقعتْ عيناي مصادفةً على إحدى مكتبات زاخو على نسخ قديمة من مجلة «العربي» الكويتية، ذكرتني تلك النسخ بأبي وذكرياتنا المشتركة مع هذه المجلة. واليوم تصلني هدية من أبي أخذتني مرة أخرى إلى أجواء جلساته وكلماته، هذه المرة وأنا في السويد بعيداً عن زاخو وعن قامشلو وعن أبي!
تجد في درجه الخاص، مجموعة خاصة من كتبه المفضلة والتي يضعها في متناول عينيه ويديه، ستجد بجانب تلك الكتب زاوية مخصصة لأشياء بسيطة يهوى أبي اقتناءها وجمعها كالساعات والأقلام وزجاجات الكولونيا والمسابح.
أبي لا يجمع تلك الأغراض فقط للاستخدام الشخصي بل يستمتع بإهدائها للآخرين أيضاً، فلا يهديها مرسلة في طرد أو بريد بل يعشق تقديمها بيدين مبتسمتين مباشرة دون وسيط إلى أرواح الآخرين.
أشياء كثيرة كان يحتفظ بها أبي كنت أحسبها من أغراضه الخاصة جداً، فأجده فجأة وبطريقة بسيطة وبكل سهولة وأريحية يستغني عنها، ويهديها لأخ من أخوته أو لأولاده أو لأحد المقربين من أصدقائه وزواره وهو في منتهى الغبطة والفرح.
هذه المرة يكسر أبي روتين طقوسه المعهودة وقواعده في الإهداءات-تجاوزها معي -أولاً أن الهدية لم تكن قلماً، ولا ساعة، ولا عطراً، ولا مسبحةً، كما هي العادة بل كانت دفتراً صغيراً أكبر من حجم اليد بقليل، دفتر بسيط بغلاف أخضر مع خمسين صفحة ملأها أبي كلها من محفوظاته واقتباساته بخط يده اليسرى!
والتجاوز الثاني أنه لم يقدم هديته يداً بيد كما يفعلها دائماً فكيف له ذلك وأنا المغترب البعيد؟ بل أرسلها لي إرسالًا، من أرض عين ديوار الخضراء إلى مدينتي البعيدة في السويد، مرّت أرواحُ كلماته المسطورة في ذاك الدفتر بمعبر سيمالكا والطريق السريع بين زاخو وهولير، بقيت كلماته لأيام تجول بين مطارات كوردستان وقطر، واستوكهولم حتى استقرت في يدي المتعطشة للمس أيّ شيء يخصّ رائحة أبي!
لأبي هواية قديمة؛ عادة كتابة ما يعجبه من أمثال وأفكار ومقالات، يختارها من الكتب والمجلات التي يقرؤها بصورة شبه يومية، وينقلها، ويحفظها في دفاتر خاصة به، يكتبها لنفسه في الدرجة الأولى، ويعود لقراءة مختاراته بشكل دوري ومستمر لدرجة يحفظ معها الكثير ممّا يكتبه، وينقله، دائماً أقول له: دفاترك هذه لا تقل قيمة عن كتاب البيان والتبين للجاحظ، فهي مكتوبة ومبوبة بطريقة مشابهة لتصنيفات تلك الكتب حيث التنوع في المواضيع، وفي الأساليب مما يجنّب القارئ الملل، اقتباسات وكلمات تأخذ بيدك وروحك في جولة سلسلة ورشيقة بين حدائق الفكر والأدب والسياسة.
حين يتحدّث أبي أو يكتب أشعر دائماً أن كلامَه أعمقُ من كونه مجرد كلام فقط بل، أتلقف كلماته وكتاباته بروح الرسالة والوصية، وصية رجل أختبر الحياة بحلوها ومرّها!
من أجواء اقتباسات أبي:
يابني:
«العاقل الواعي الذي يريد خدمة أفكاره، وأن تشق طريقها إلى خدمة الناس هو الذي يمتلك سعة الصدر ورحابة الأفق ولا ينفعل تجاه الرأي المخالف مع أعلى درجات ضبط النفس والتحكم في الأعصاب»
«على القادة الوطنيين أن يصبحوا قادة عالميين ويأخذ بالنظرة الأبعد من حدود بلدانهم».
«كل يوم أعيشه هو هدية من الله، ولن أضيّعه بالقلق».
سرُّ متعتي بقراءة دفاتر أبي هو أني مدرك لما بين سطوره، وما خلف شعوره حين قرأ، وحين اقتبس، وكتب.