الباز واختيار الباشا

الباز واختيار الباشا

صبري رسول

الإهداء إلى الشّيخ إسماعيل رسول
حدَثَ هذا أمامَ أعينهم، ومازال نزيفَ الألمِ يسيلُ في الوديان والشّتات.
اتَّجهت الأنظار إلى الطَّائر المُنقِذ المُخْتزِل في جناحَيه سلاماً للبلاد والعباد. حامَ ورفرَفَ فوق رؤوسهم طويلاً كمَلَكٍ سيُهديهم الفردوسَ، انخفضَ تارةً، حتى كادَ أنْ يلمسَ رؤوسَهم، وارتفعَ أخرى، راسماً في أديمِ السّماء دوائر مكرَّرة. تعلَّقت أبصارُهم بتلك الدَّائرة الوهمية.
بعد نزاعات ومشاحناتٍ طويلة اتَّفق القاطنون في قرية «ملا ميرزا» إثر مفاوضات شائكة، على طريقة مبتكرة لاختيار شخصٍ لكرسي (الباشَا) يحظى بتأييد الناس. طبعت الأطراف الثَّلاثة المتحاربة منذ سنة «الثَّلج الأحمر– حسبَ تقديرات مؤرّخي كهف زرادَشتْ» توقيعاتها على بياضٍ يُنهي الخوف بينهم، برعاية رفرفة أجنحة الباز وحضور قرى مجاورة تريد الخير لـ (ملا ميرزا).
ملاك القرية (كِرْبَاسُ الأَجْرَد) الضَّيف القادم من أطراف الغبار، بتوجيهٍ من قَلقِ الخرَائِط الموزعة بين الأحرف الملوّنة «A» و«B» استولى على غالبية المصالح الحيوية في القرية، شخصية يظنُّها القرويّون بأنَّها وهمية. تمثّلُ حضورَهُ أجندَةٌ قويةٌ في إدارة أملاكه، في اتِّساعِها المُدْهِشِ الخفيّ. لم يحصل بينه وبين القرويين أيُّ لقاء تاريخي. يتّهمهم بالهمجية والتَّجاوز على ممالك الله في جغرافية الأرض. والطّرف الثَّاني «الشَّيخ إسماعيل البوطي» خليفة «ملا ميرْزا» الباني الأول للقرية المسماة باسمه وأتباعه النُّجباء، ويملكون أطراف البساتين والوديان المائية المستحمّة بأرواحِ أهلها بعد انزياحهم من كهفِ زرادشت إليها. و لهم اتِّفاقات ضمنيّة مع ملاكين صغار، لما للشيخ إسماعيل فتاوى دافئة تجذبهم نحو عباءته؛ فتاوى تحلّل رجوع المطلّقة إلى زوجها دون مرورها بعملية التّوقيع من حوافر مخطّط البراري، وتغفر للكاذب بكفارة حفنة من التبغ التركي. ويشاركُ (كرباسَ الأجردِ والشيخَ إسماعيل) في حياةِ الأرضِ أناسٌ مهمّشون، انتشرَتْ أكواخهم على حدود البيادر الذَّهبية، وفقدوا حِيَلَهم في حَرْثِ الأرض بعد قدوم المالك الوهمي، المختفي من سجلات (الباب العالي) و المسجّل في قيود الأمم الحيرى بخطٍّ لا يخضع لقوانين التبديل، والتغيير.
سجلات الدّولة حافلة بحروب ونزاعات أحرقت أرواحاً خضراء، ومزارع فيحاء في القرية، وجمرة النزاع البدائية أفسحَت لقدوم (كرباس الأجرد) ليُصبِحَ الطّرفَ السّيدَ وفقَ بنودٍ مثْبتةٍ في مواثيقَ خفيّةٍ مُبْرَمَةٍ بين الأمم العليا لانتدابه على بيادر المُهمَّشين وحراس (بيت المال) والأمم تلك أمم خيرة وفق سجلات (اللوح المحفوظ) أرسلها (هريمان) للبشر، فتلوّنت خلافاتهم وتقاربت أماكن عراكهم، وامتدَّتْ مساحة قتالهم زمنياً بطول سور الصّين.
تدخلت في حلّ نزاعهم القرى المتاخمة، والشّيوخ، والمؤرخون، ومهندسو فكّ وتركيب الكواكب، والأدباء المنتحرون، و الأمينون العامون للأمم المتحدة، وفلاسفة علم الاجتماع ومستشارُو جنكيزخان، وزعماء الممالك البائدة، والإنس والجنّ. تحوّلت اقتراحاتهم إلى مستنقع للقرارات المتراكمة. كلّ ينفخ في قربته المبقورة. وبعد طول الصّبر، تلاهثَت الأنفاسُ، ولاحَ في أفقِهم الدّامس طيرٌ يحمل سلاماً غائماً، حفروا حروفَه على وجْه مِسَلَّةٍ عملاقة في بابل وروما، واتفق جميعهم على هذا القرار الدولي:
«يُرفَعُ الطّيرُ على مرْأَى الجميع، ومن يحملُ إليه الطَّير البازُ – بفراسته - الزَّعامةَ بين جناحَيه، وينزل على كتفِهِ، يقودُ خلافةَ البلادِ والعبادِ».
رُفِعَ البازُ، وتقطّعت الأنفاسُ المتلاحقة لحركةِ الطّير الدّائرية. أنظار مشخّصة إلى جناحيه المرفرفَينِ. عسى أنْ يبزغَ سلامٌ من رفرفَتِهما، وعلى مَنْ سيقعُ الاختيارُ ؟. هبطَ الباز على كتف أحدهم. تبسَّمَت الطبيعة الحيرى بخمائلَ تحملُ أنفاسَ الفردوس المنتظر، واخضرَّ فصلُ الاختيار المثير.
رفضَ أتباعُ (كرباس الأجرد) هطول الباز على كتف مهمَّشٍ من الطّرف الثَّالث مرتين اثنتين.
اتّفق القوم على الثّالثة المؤلمة، وفيها حامَ البازُ فوق رؤوسهم، يناوِرُ في تقلباتٍ غريبة، ثمَّ ارتفع بعدَ طولِ الطّواف، متجهاً إلى العمق السّديمي في الأعالي الشّاهقة. تسمّرت أبصارهم عليه، واضعِينَ أيديهم ظلاً فوق أعينهم بارتخاء، مُحدِّقِينَ إلى نقطة متحركة حتى تلاشت ظلالها.