ظلم التاريخ وعقاب الجغرافيا للكورد وكوردستان (2 من 2)
فيصل نعسو
إن موقع توركيا يلعب دورا إستراتيجياً في لوحة الشطرنج الجيو – السياسية لحلف الناتو، بفضل جغرافيتها الحساسة التي تمتد على مفترق طرق بين أوروبة وآسيا، و دورها المحوري في القضايا الأمنية والإقليمية والعالمية بالنسبة للحلف. كما أنها نقطة التقاء بين أفريقيا والشرق الأوسط وآىسيا الوسطى، وجوارها الجغرافي (المائي، البري، الجوي) مع الإتحاد السوفييتي السابق وروسيا اليوم - جعلت منها دولة مهمة داخل دول الناتو. إذ فرضت خلال السنوات الأخيرة رأيها على حلفائها الآخرين وحماية مصالحها.
فالمشاكل بين توركيا وحلف الناتو ثناية الأبعاد، وليست معه ككل. وهذا ما حصل مع أمريكا بشأن سوريا، وطائرات أف 35، والعلاقة مع روسيا حول رادارات 400 وأخيرا رضوخ فنلندة والسويد لشروط توركيا بشأن انضمامهما إلى الناتو.
لهذا الأسباب لا تسعى حليفاتها في الناتو حتى إثارة البحث عن الحلول للمسالة الكوردية لديها أو التلميح إليها و لو بالحد الأدنى، ذلك خوفا على مصالحها الجيو- استرتيجية والأمنية، وبالتالي اقترابها أكثر فأكثر من القطب الروسي - الصيني المعادي لها.
الحلف الروسي – الصيني يأخذ هذه الناحية بعين الاعتبار في تعامله مع توركيا، ولا يتجاوز حدود ما يراه حساسا بالنسبة لها كحل المسألة الكوردية عندها، بل تحاول روسيا ومن خلفها الصين بشتى الوسائل الوقيعة بينها وبين حلفائها في الناتو.
لكن عند شعور الدولتين، أن توركيا تتخذ خطوات جدية ملموسة ضد مصالحهما في مناطق لتركيا لها تأثير عليها، فإنهما تحذرانها - وعند الضرورة - تتخذان الإجراءات اللازمة ضدها.
أما بخصوص إيران، فالوضع مشابه إلى حد ما كما هو لتوركيا. فإطلالتها على الخليج العربي (الفارسي) وبحر قزوين (الخزر) جعلتها ذات تأثير كبير على طرق التجارة العالمية، وعلى خط سير الأساطيل العسكرية القادمة من أوروربا، مرورًا بالشرق الأوسط والأدنى إلى جنوب شرق آسيا وبالعكس، بحيث أصبحت نقطة مواصلات استراتيجية هامة أايضا. كما إن غناها بالنفط والغاز، ومركزيتها الدينية المميزة لشيعة العرب والعالم التي تستغلها بامتياز خدمة لمصالحها القومية، وتوطيدا لنفوذها الإستراتيجي والسياسي في الإقليم والعالم.
كانت إيران طوال تاريخها الحديث والمعاصر بمثابة دركي معسكر أمريكا وحليفاتها في الناتو لتأديب كل من يتجرأ الخروج عن طاعتها في منطقة الخليج، لكن المعادلة تغيرت شيئا فشيئا بمجيء (آيتولاهات) المذهب الشيعي إلى السلطة فيها، إلى درجة أنها تشكل الآن أحد الأقطاب الرئيسية في الحلف الروسي الصيني.
أثار هذا الانعطاف في الموقف الإيراني قلقاً وانزعاجاً من مراكز القرار لدى حلفائها السابقين في الناتو، وبدؤوا باتخاذ الخطوات المعادية لها من خلال المواجهة التصعيدية من قبل الدول ذاتها تارة، وإسرائيل تارة أخرى للضغط عليها لتغيير سلوكها، والكف عن عرقلة مشاريعه وخططها في إقليمنا المضطرب، كما يصرح قادة ومسؤولي أمريكا وحليفاتها مرات عدة.
هذا يبين لنا بجلاء، لو هادنت إيران حلفاءها القدامى وتوصلت إلى حلول وسط معهم بشأن نقاط الخلاف بينهما، ستعود مياههما بالتدريج إلى مجاريها الطبيعية.
ما تعلن كل من إيران وأمريكا حول عدم وجود مؤشرات على دعم إيران للحرب الجارية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية بقيادة حماس.
يرحب المعسكر الروسي – الصيني بموقف إيران الحالي في الشرق الأوسط، و هنا أقول ثانية، لا داع لنا أن نضع بيضنا في كفة ميزان واحدة، وألا ننجر وراء التصريحات على لسان ما يسمى بمستشارين الكورد وغيرهم، أو أقاويل مسؤولين سابقين وحاليين في مقابلاتهم الصحفية عن حق الشعوب في تقرير المصير، وحماية حقوق الإنسان، والديموقراطية، أو الدعوة إلى حمل السلاح بدلا من قواتهم وحكوماتهم ضد العدو المشترك المزعوم.
نظراً للوضع الملتهب في الشرق الأوسط وفي العالم، بفعل الحرب الإسرائيلية – الفلسطينية العائدة بجذورها إلى مراحله سابقة، و ليس كما يدّعي البعض إلى الـ7 من أكتوبر، ينبغي علينا أن نحدد المواقف بإيجاز منها، ومن خلالها موقف إسرائيل من المسألة الكوردية في العقود الأخيرة. الحرب الدائرة الآن، ليست كما يصورها البسطاء من الكورد، بين حماس المتطرفة دينيا وإسرائيل اليهودية، بل مرتبطة بالصراع العالمي الدائر بشكل خفي بين المعسكرين المعاديين المشارين إليهما مرات متتالية.
منذ الأيام الأولى لها، أعلنت أمريكا وحليفاتها في الناتو عن إدانتها للعمليات الحربية ما يبن حماس والمقاومة الفلسطينية الأخرى وإسرائيل، وتأكيدها على حق دفاع إسرائيل عن نفسها، ثم أرسلت بوارجها البحرية، وأقامت جسرا جويا لإيصال مختلف أنواع الأسلحة إلى إسرائيل، وأمدتها بالمعونات المالية المفتوحة الآجال، وهددت الدول العربية المجاورة والدول الإسلامية؛ وإيران بشكل خاص بعدم التدخل المباشر في الحرب.
ترى، كيف تصرفت إسرائيل تجاه حل المسألة الكوردية في الإقليم؟؟
نظرا لوجدوها في محيط شعبي عربي و إسلامي معادي أيضا، سعت إسرائيل دوما وتسعى حاليا إلى إيجاد قنوات سرية و نادرا علنية مع الشعوب والدول والحكومات العربية وغير العربية، وأخص بالذكر(توركيا وإيران) حيث نجحت بالتنسيق مع حلفائها في العالم في عقد الكثير من الصفقات الاقتصادية والثقافية والاتفاقات العسكرية معها.
لاقت هذه السياسة رواجا وتكللت بالنجاح في زمن الحرب الباردة نتيجة التأثير الفكري الأيديولوجي وقتئذ. لكن مع نهاية تلك الحقبة التاريخية في أيامنا هذه، وبداية ظهور سمات لصراعات جديدة على الساحة العالمية تعقدت مهمة إسرائيل في إقناع الشعوب العربية والإسلامية القريبة منها أو البعيدة عنها بما طرحته سابقا وتطرحه اليوم.
عندما شعرت إسرائيل بفشل سياساتها التي نجحت في ترويجها فيها سابقا، وازدادت كراهية الشعوب العربية والإسلامية إلى حد الخطورة عليها، قررت حينئذ استغلالاً إنكار حكومات الدول العربية المجاورة (العراق ، سوريا) و المسلمة (توركيا، إيران) لحق الشعب الكوردي في تقرير المصير لمصلحته، وشرعت بإعلانات صاخبة عما يتعرض له الشعب الكوردي من مظالم وهضم الحقوق، وأحيانا تقديم بعض المساعدات المحدودة كمّا ونوعا للضغط على تلك الدول والحكومات، كي توقف أو تخفف من سياساتها المعادية لها في العالمين العربي والإسلامي.
ما إن تصل إسرائيل إلى تحقيق أهدافها المرجوة تتخلى عما كانت تعلن عنها سابقا، وتتوقف عن تقديم تلك المعونة الرمزية، وتلجا أحيانا إلى عقد صفقات قذرة مع تلك الأنظمة والحكومات الدكتاتورية.
لعل التاريخ الكوردي والكوردستاني الذي نحن شهود عيان فيه توجد أمثلة حيّة تؤكد ذلك. ولعل الأشد ألماً اتفاقية الجزائر بين (أمريكا، إيران، اسرائيل، العراق في الجزائر 1975).
بالرغم من ذلك، لعبت أمريكا وتحالفها الدولي منذ الـ90 وحتى اللحظة الراهنة دورا إيجابيا في التخفيف من معاناة الشعب الكوردي في كل من باشور وروجآفا كوردستان، و تأكيد قيادة التحالف الدولي أثناء انعقاد المؤتمرات والاجتماعات الدورية، بان الكورد هم حلفاؤنا الموثوقون في النضال ضد الإرهاب (داعش وأمثالها) في الشرق الأوسط - يؤخذ على موقف أمريكا ودول التحالف الأخرى بعدم الوضوح في الإعلان عن دعم الحقوق القومية المشروعة للشعب الكوردي في العراق وسوريا، وعدم تحديد الأطر القانونية والحقوقية الشرعية لحلها.
في أغلب الحالات، تتماهى مواقف الدول العربية الأخرى من حقوق الشعب الكوردي القومية مع مواقف الدول الكبرى المتعاونة والمتحالفة معها، مع بعض الاستثناءات المرتبطة بالمسائل القومية والدينية لها لتوطيد مواقعها السلطوية، وتعزيز أركان نفوذها في الإقليم.
هذا من حق جميع دول هذا القطب، كما الحال لغيرها من القطب المنافس له، التصرف وفق مراعاة مصالحها وأهدافها في أية بقعة في العالم.
نحن الكورد وطوال تاريخنا الطويل و إلى اللحظة الحالية لم نتمكن من تحديد كيفية التعامل مع تلك المصالح والأهداف لدول القطبين، انطلاقا من مصالحنا وأهدافنا القومية الكوردية المشروعة على نطاق كوردستان عموما وجزئيا. إذ دخلنا في متاهات المصالح الحزبية الضيقة، والصراعات المحلية المحمومة، والدفاع المستميت عن الشخصنة، والتمسك المنقطع النظير بالأنانية وحب الذات. وقد شجع وصفق لتلك المواقف والمفاهيم المخيبة للآمال، جوقة من الإنتهازيين والوصوليين وغيرهم كثيرين.