كوردستان.. والعلاقات الدولية المرنة

كوردستان.. والعلاقات الدولية المرنة

كفاح محمود

تميّزت سياسة إقليم كوردستان منذ إعلان فيدراليتها عام 1992 واعتراف الدستور العراقي بها كفيدرالية ضمن الاتحاد العراقي الفيدرالي بعلاقات متوازنة مع محيطها، ومع معظم الدول العربية والأجنبية بما جعلها كياناً سياسياً إيجابياً نال إعجاباً دولياً واقليمياً متميّزاً.
ورغم ذلك فإنها تتعرّض في حدودها مع كلٍّ من تركيا وايران إلى عمليات عسكرية عنيفة، اخترقت في كثير من صفحاتها أراض الإقليم جواً وبراً، مستخدمة أسلحة ثقيلة كالمدفعية والطائرات، أدّت إلى استشهاد العديد من المواطنين الكوردستانيين المدنيين من سكان الحدود وجرح أعداد أخرى، كما تسببت في تهجير الآلاف من العوائل وإفراغ قراهم وبساتينهم بسبب الصراع الحاصل بين قوات الدولتين مع معارضيهم السياسيين، ورغم ما يتمتع به الإقليم من مشروعية الرّد بالمثل وإمكانياته العملية على ذلك مع تواضعها، إلا أنها تربك العملية برُمّتها لو أنها استخدمت كردّ فعلٍ غير محسوب.
لقد تعاملت الإدارة في إقليم كوردستان، وما تزال مع معظم هذه الإشكاليات بمرونةٍ معهودةٍ بالحكمة والتأنّي، وحسابات بعيدة المدى فيما يتعلق بالأمن والسلم الداخلي والإقليمي، وتأثيرهما على النهضة الاقتصادية والعمرانية والصناعية لكلّ الأطراف، وكانت الدبلوماسية الرفيعة التي قادها الرئيس مسعود بارزاني قد أتت ثمارها في كثير من الإشكاليات في الداخل والخارج، وبالذات ملف الحدود مع الدولة التركية وجمهورية إيران، وقد أدركنا جميعاً أثناء تأزم العلاقات بين تركيا والإقليم وتحشيدها لعشرات الآلاف من جنودها مع كامل تجهيزاتهم الهجومية قبل عدة سنوات، كيفية معالجة الموقف بهدوء وتأنٍ من لدن القيادة الكوردستانية، حينما خاطبت الأتراك: إن مصالحكم العليا وأمن بلادكم واستقرار اقتصادكم يكمن في مئات الشركات التركية التي تستثمر مليارات الدولارات في كوردستان والتي ستتعرّض جميعها للخطر في حالة تأزيم الأوضاع إلى درجة الفعل العسكري
قاد الرئيس مسعود بارزاني في كثير من المواقف الصعبة الدبلوماسية الكوردستانية لحل إشكاليات مُعقّدة بدءًا من الصراع مع حزب العمال الكردستاني في تسعينيات القرن الماضي ومروراً بكثير من المشاكل الداخلية والأزمات السياسية التي نجح في حلها أو تهدئتها سواءً مع الحكومة الاتحادية ومؤسساتها أو بين أطراف العملية السياسية في الداخل، ويأتي ذلك ترجمةً لنهجٍ اعتمدته الإدارة في التّعاطي مع الأحداث بحكمة وتأنٍ ومرونة تخدم مصالح البلاد العليا سواءً في الإقليم أو في العراق عامة.
لقد أدركت القيادة في الإقليم بسلطاتها الثلاث وفعاليات الشعب السياسية والاجتماعية أن معالجة أي مشكلة من المشاكل تستلزم وعيًا عميقًا وإيمانًا راسخًا بمصالح البلاد العليا قبل القيام بأيّ عمل أو ردّ فعل غير محسوب النتائج، وبذلك اعتمدت أسلوباً حضارياً ومدنياً تميّز بالصبر والدقة في موضوع المناطق المتنازع عليها، التي حاولت كثير من الأطراف إشعال نار الفتنة والحرب.
هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي وفيما يتعلق بانتهاكات دول الجوار شمالاً وشرقاً، اعتمدت النهج ذاته في مقاومتها ورفضها للتّدخُّلات والتّجاوُزات بالتظاهر والاعتصام والاحتجاج والدبلوماسية الهادئة بعيداً عن تشنيج الرأي العام وإشاعة أجواء الحرب والقتال، التي لا تخدم أحدًا في أي حال من الأحوال بالحفاظ على إعلام هادئٍ ومتّزنٍ يحفظ الأمن والسلم الاجتماعيين.
إن إقليم كوردستان الذي يتميّز اقتصادُه ومجتمعُه بالديناميكية والحيوية، ووضعه الأمني بالاستقرار والسلام تحوّل إلى ملاذ آمن لكل العراقيين ومنطقة جذب جدّ مهمة للاستثمارات الوطنية والأجنبية، التي تساهم في تطوير الإقليم ونهضته الكبيرة، والتي حولت كوردستان إلى ورشة كبيرة في كلّ ميادين البناء والإعمار والتصنيع وتحديث الزراعة وتطويرها، وما حصل في قطاع الكهرباء والطرق والخدمات الأخرى خيرُ دليلٍ على نجاح برامج الحكومة ودبلوماسيتها الهادئة في التّعاطي مع الملفات الساخنة، بما يجعل كوردستان في منأى عن أي عمليات طائشة ربما تؤذي مصالح كل جيران الإقليم الاقتصادية والمالية والسياسية وفي مقدمتهم تركيا وإيران اللتين تتمتعان بمصالح اقتصادية مهمة في إقليم كوردستان.
لقد أثبتت السنوات الماضية التي قاد فيها السيد مسرور بارزاني طاقمه الحكومي، إنجاز مهمات ومشاريع بالغة الأهمية في ميادين الأعمار وتحديث المدن والخدمات والمواصلات وصناعة الغذاء، وإرساء منظومة علاقات دبلوماسية رصينة مع كثير من بلدان العالم، على أسس متوازنة تحكمُها العلاقاتُ الاقتصاديةُ والسياسية بشكل مهني، ممّا بلور نسقاً ديناميكياً من الدبلوماسية التي تعتمد العمل المنتج بعيداً عن التهويل والتشنيج، والذي دفع الكثير من بلدان العالم إلى افتتاح ممثليات لها في العاصمة الإقليمية أربيل، والعمل من خلالها لخدمة الاستثمارات في كافة المجالات التي تتيح تبادلًا مشتركًا للمصالح الاقتصادية والمالية بين دول الجوار والإقليم.
إن مصلحة كلٍّ من إيران وتركيا هي ترسيخُ السلام في إقليم كوردستان والحفاظ عليه، لأنه يحافظ بالتالي على مصالحهما الاقتصادية وسوقهما الكبير في الاقليم خاصة والعراق عامة، وغير ذلك مهما كانت الأسباب والمبرّرات سيعود عليهما بالضرر الكبير، لا من الجهات الرسمية، بل من الأهالي الذين سيعزفون تماماً عن أي مصلحة تركية أو إيرانية مهما كانت، وهذه بتقديري هي رسالة كوردستان الدبلوماسية إلى الجميع.