روح الشرق …الجينوم الذي لا يغادر

روح الشرق …الجينوم الذي لا يغادر

صالح محمود

موجة الهجرة وترك الديار والتوجُّه نحو أوروبا مستمرة وبكثافة، ولا يبدو في الأفق أي رجاء أنّها ستتوقف عمّا قريب والناس يحملون أمتعتهم وحقائبهم وأجسادهم، ويغادرون دون أن يلتفتوا إلى الوراء، لكن هناك أشياء تبقى مرتبطة ولصيقة بالأمكنة، وتأبى أن تغادر، ولا تسعها.
الحقائب روح الأمكنة والديار تبقى، ولا تغادر، فالروح تبقى معلقة في المكان الذي ولدت وظهرت فيه، وتأبى الابتعاد والرحيل، روح الشرق تبقى في الشرق، ولا يمكن أن تسكن أو تهدأ أو تطمئن إلا في الشرق. بمعنى التشابك الاجتماعي والعادات والتقاليد وأنماط الحياة وطريقة التصرف في الحالات الاجتماعية سواء أكانت حزينة أو العكس أو حتى طريقة العمل والكدّ والحياة المشتركة، وقضاء أوقات الفراغ والراحة وروح المحبة والتآلف والتعاون، وكل هذه الأمور مجتمعة تصيغ، وتولّد روحاً تتعلق بالمكان تعلّق الرضيع الصغير بأمه ويغدو الفطام صعباً.
الشرق له سماتٌ وخصائصُ يمتاز بها وحده دون غيره وجينوم خاص به صُيغ خلال قرون، وللشرق روحٌ حاضرةٌ وموجودة في الشرق ولصيقة بترابه وسمائه وهوائه ومائه وتأبى أن تتركه أو تغادره. فالأبناء يغادرون، ويرحلون بعيداً، ولكن الروح تبقى ولا تغادر، لذلك فالمهاجرون يعانون، ويتعذّبون هناك في الغربة لأنهم يفتقدون هذه الروح التي تأبى إلا أن تبقى في مكانها ويفتقدون هذه الروح التي يستصعبون الحياة بدونها. فالمهاجرون يبحثون هناك عن نمط حياة تشبه نمط حياة عاشوها هنا وعن أجواء وأوساط اجتماعية كبروا ونموا فيها وعن صدور دافئة أحتضنتهم هنا، ولكنهم مع الأسف يفتقدونها، ولا يجدونها هناك، وهذا من أسباب ودواعي حزنهم وكآبتهم، لأنهم يخفقون في إحياء واستحضار نمط الحياة التي عاشوها هنا، بمعنى نفس العادات ونفس التقاليد ونفس طريقة العيش ونفس اللمة والدفء الأسري والعائلة والأقرباء.
ولكن هيهات فهذا أمرٌ صعب ومستحيل! روح الشرق الحميمة والدافئة إذا غادرت الشرق تموت، وتفنى هناك في أوروبا البيئة، الناس، العمل، المدارس، الدين، الحدائق، الثقافة واللغة.. كل هذه الأشياء مجتمعة لا تساعدك على إحياء نمط وطريقة الحياة التي كنت تحياها هنا في الشرق. احذر فأنت في الغرب! وبالتالي نمط الحياة الغربية ستفرض نفسها عليك بالرغم عن إرادتك، فالحضارة والقيم الأوروبية صيغت، وأخذت شكلها الحالي، وتطبعت بطباعها الحالية خلال قرون وأحقاب طويلة والسياق الذي رافق ولادة، وتشكّل هذه الحضارة يفرض نفسه في البيئة التي ولد ونبت فيها، ولا يتزحزح عنها أبداً.
الشعوب الأوروبية مختلفة عنا ومغايرة تماماً وليس الآن فقط بل الاختلاف قديم وعمره قرون، وكذلك منطق الحياة في أوروبا له مسار وخط معين يسير فيه ومن الصعب أن ينحرف عن مساره والحياة هناك ترتقي وتتقدم على طريقتها ووفق منطقها وخصوصيتها هي.
أوروبا تعشق الصناعة ونحن نعشق الكلام، لقد برع الأوروبيون في الصناعة وحضارتهم قائمة عليها ونحن سادة الكلام وفرسان البلاغة والحب.
أوروبا على صواب ونحن على خطأ، لكننا سنظل متمسكين بخطئنا حتى الرمق الأخير.