من قتل الكواكبي؟

من قتل الكواكبي؟

إبراهيم اليوسف

لايزال السؤال قائماً، ومفتوحاً" من قتل الكواكبي؟" رغم مرور مائة وثلاثين سنة على ذكرى وفاته، هذه الذكرى التي مرت في الثالث عشر من حزيران بصمت شديد، في ظل ما يجري، من حولنا، ليس في مكان ولادته حلب، ولا في مكان ملاذه القاهري، فحسب، وإنما على نحو أوسع، بما يجعل أهمية هذا المفكر الحصيف، والعلامة الفريد، والثائر الفذ، في الثقافة الإسلامية، عامة، والعربية، خاصة، تبدو لكل من اطلع على ما تركه وراءه من مؤلفات ومخطوطات وكتب، وإن كان بعضها قد سرق، ليلة وفاته، بعد دس أحدهم له السم في فنجان قهوته التي كان يحتسيها، في أحد المقاهي، على ضفاف نهر النيل برفقة أحد أصدقائه المقربين، وكأن قاتله قد أدرك أن فعلته ستظل منقوصة، فيما لو لم يتم وأد ما يقع بين يديه من مخطوطات غير مطبوعة للرجل، طالما حدث أعلام مصر، ممن التقاهم عنها، خلال حوالي ثلاثة أعوام من بقائه في أرض الكنانة.
ومن يعد إلى سيرة الكواكبي1855-1902، ابن مدينة حلب الشهباء، منذ تتلمذه في مدرسة الأسرة، وتخرُّجه فيها، ونيله أعلى مراتب العلم، وتوزعه بين مهمتي: الكتابة في صحافة تلك المرحلة، ناهيك عن اشتغاله على أسفاره الفكرية، ومهنة المحاماة التي وجد فيها ضالته، المكملة للمهمة الأولى، ليناهض بوساطتها الظلم، وينتصر للمظلومين في محاكم مدينته، ويستقطب الناس من حوله، إلى أن يسميه هؤلاء بأبي المظلومين. يجد أن هذا المثقف الاستثنائي الذي عاش في زمان السلطان عبد الحميد، أبى على نفسه السكوت على الضيم، وقد تجلى ذلك من خلال إطلاقه لصحيفته "الشهباء" التي أغلقت، ما اضطره إلى أن ينسب ملكية صحيفتين أخريين له إلى صديقين له، كي تغلق الواحدة منهما تلو الأخرى، نظراً لانشغال هذه الصحف الثلاث، مجتمعة، بمناوأة الفساد، ومايترتب على ديمومته، من أدوات للاستبداد التي يتفرخ في وجودها عادة.
يعد الكواكبي من خلال الآثار المهمة التي تركها وراءه، ومن أبرزها "طبائع الاستبداد" في طليعة المفكرين الذين لامسوا قضايا جدّ حساسة، لاسيما تلك التي تتعلق ب"طبيعة السلطة" وعلاقة "المثقف" بها، بل وسلوكها تجاه العوام، فقد كان أحد الأوائل الذين شخصوا طبيعة "المستبد"، واستقرأوا أسباب هذا الشذوذ لديه، ناهيك عن تشريحه لسايكولوجا العامة، وكيفية استغلالها، وعطبها، أواستنهاضها، بل والأكثر مدعاة للدهشة، دفاع الضحية" عن قاتله" وغير ذلك من المتلازمات التي تبدو أهميتها الآن، وكأن هذا العلامة، المثقف، الشامل، لاتزال يداه في مختبر اللحظة التي نعيشها، من دون أن تحول مسافة قرن ونيف زمني دون ذلك، بل والأكثر ألماً، واستفزازاً، هو حال مسقط رأسه الآن، بعد هذا الشريط الزمني الطويل.
وبعيداً، عن الخوض في متاهات التكهن، فإن هذا العالم الفقيه، الثائر، الذي ضاق به بلده، فمضى بعيداً إلى بلاد الهند والسند، ينشر العلم والمعرفة، أنى حل، هاجسه استكمال رسالته، وهو ما حدا به للأخذ بنصيحة الأفغاني"1839-1897" قبيل وفاته، والسفر إلى مصر، عسى أن يجد ذلك الفضاء الذي يواصل من خلاله دوي رؤاه، بيد أن يد الغدر لاحقته فلم تنفعه محبة علماء مصر ، ولا احتضان خديويها له، بل ولا مسافة الأمان الافتراضية التي ظن أنها ستجعله في مأمن من هؤلاء الذين خططوا، ونفذوا لقتله، مسموماً، لتكون حياته، وغربته في سبيل رؤاه، وفحوى هذه الرؤى، إحدى الصور الصارخة عن حال المثقف المبدئي، وإن استطاع قاتله أن يكون في منجى عن توافر أسباب الإدانة، ما جعله، هو الآخر، يجدد فعلته، باستمرار.