الأسفَار بين الماضي والحاضر والمستقبل
محمد رجب رشيد
ثَمّة أمور في الحياة نسمع عنها دون أنْ نعيشها إلّا فيما ندِر، لعلّ السَفَر من أهمِّها، نقرأ عن فوائده دون تجربته، مع أنّها تجربة مثيرة تستحِّق الخَوضَ فيها حتّى وإن كانت محفوفة بالمخاطر. في مقدمة كتابه -غرفة المسافرين- يقول الكاتب عِزّت القمحاوي: (من لم يسافِر ولو عِبر قِصّة في كِتاب لم يعِشْ سوى حياة واحدة قصيرة).
يُعرف السَفَر بحركة الناس من مكان إلى آخر في رحلات قصيرة أو طويلة لأغراض مُتعدِّدة، تبدأ بأبسط أشكالها كالزيارة القصيرة مثلًا، وتنتهي بأعقدها كالهجرة دون عودة، وما بين الشكلين هناك طلب العِلم، تأدية الشعائر الدينية، حضور المناسبات الرسمية والاحتفالات، السياحة والاستجمام والنقاهة، الأمر الذي يساعد على اختراق الرَتابِة والمَلل والحياة النمطية. ولا أقلُّ من ذلك الانفتاح على الثقافات الأخرى مِمّا يجعل الإنسان أكثر انفتاحاً على نفسه أيضًاً، فضلًا عن التزوُّد بِالطاقة الإيجابية للعودة إلى الحياة الطبيعية بهِمّة ونشاط.
على الرغم من كَون الرحلات القصيرة وسيلة رائعة للاسترخاء وتحسين المِزاج، وذلك من خلال زيارة الأهل والأصدقاء والاستمتاع بالشواطئ والغابات والمنتجعات إلّا أنّ السفر لفترات أطول والعيش في الخارج واللقاء مع أشخاص مختلفين وحدوث مواقف غير معتادة هو التجربة الأمثل لمعرفة الآخرين عن قُرُب وتغيير طريقة التفكير بحيث يجعل الإنسان شخصاً أفضل.
بالعودة إلى الماضي نجد أسفارًا غيّرت وجه التاريخ، فالرسول (محمد) ص أنشأ دولته بعد سفره إلى يثرب، بينما خلال ثلاثة عشرة عامًا من بدء الوحي في مكّة لم يتمكّن من إنشاء دولة، ولم يؤمن برسالته إلّا العشرات. هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ أعظم الاكتشافات الجغرافية كان وراءه مسافرون عبر البِحار إلى المجهول، مغامرون بحياتهم على أمل اكتشاف أراضٍ جديدةٍ لم تُعرف بعد، يأتي في مقدمتهم ماجلّان الذي اكتشف كُروية الأرض، وكريستوف كولومبوس ومن بعده أمريكو الذي اكتشف القارة الأمريكية.
بالطبع لم يكن السفر قديمًا أمرًا سهلًا ومُتاحًا للجميع كما هو عليه الآن، بل كان رحلة محفوفة بالمخاطر والمهالك، تتطلّب مالًا وجهدًا ووقتًا بأضعاف ما تتطلّبه الآن. وعلى عكس الساعات القليلة التي يمضيها المسافر بالطائرة في أيامنا هذه، كانت رحلات الأوائل تستغرق أسابيع وأشهر وسنوات نظرًا لبُعد المسافات وقلّة وسائل النقل ومحدوديتها، لذا كان من الضروري التحضير للسفر قبل سنوات أو أشهر أو أسابيع حسب بُعد المسافة. لم يكن بُعد المسافة هو العائق الوحيد أمام المسافِر، فالطرقات كانت وعِرة غير آمنة، مليئًة بِقُطّاع الطُرق الذين لم ينفكوا يهدِّدون أمن وسلامة المسافرين وسرِقتهم، فضلًا عن الصحّة الجسدية التي كانت شرطًا من شروط السفر لمقاومة الحَر الشديد أو البرد القارِص، ناهيك عن قلّة الطعام والماء واحتمال فقدانهما، الأمر الذي قد يُنهي السفر قبل بلوغ الوِجهة المقصودة.
عندما كنت صغيرًا كانت الدنيا على وُسعِها لا تتجاوز دائرة قطرها عشرات الكيلومترات بالنسبة لأهالي قريتي، أمّا خارجها فقد كان الحديث عنه أشبه بالروايات الخيالية، لم يكن لأحد حاجة للسفر إلى المُدن إلّا فيما ندِر. كنت أرى شيوخًا تقتصِر حركتهم اليومية على بِضع خطوات محفوظة، يمشيها البصير والأعمى بأمان ورويّة، يجلسون على الأرض أمام حائط حجري يتحدثون عن كُل ما يضر ولا ينفع، يستمر هذا الروتين إلى أن يموت أحدهم فيمشون في جنازته دون أسىً، ثم يعودون إلى جلستهم المُعتادة، والتي سرعان ما ينضمّ إليها شخص جديد اكتشف أنّه أصبح مُسِنًّا. فأيُّ معنىً للعيش في مكانٍ واحدٍ مهما بلغت سنوات العمر؟ تمضي فيه وقائع الأيام بتطابق تام بين اليوم والذي يليه. أمّا النِّساء فقد كُنّ يخرجن للعمل في الحقول جنبًا إلى جنب مع الرجال، أو يذهبن إلى الغابات القريبة لجلب الحطب والقِش كوقود للتدفئة في فصل الشتاء، هكذا كانت الحياة في قريتي منذ قرن وأكثر.
يُذكر أنّه في البيئات الاجتماعية المحافِظة والمنغلِقة على نفسها في بعض المدن السورية كانت المرأة تخرج من بيتها مرتين فقط خلال حياتها، في المرة الأولى خروجها من بيت أبيها إلى بيت زوجها، وفي الثانية خروجها من بيت زوجها إلى قبرها، لا شكّ أنّه أمرٌ غريبٌ! والأكثر غرابة هو اعتبار عدم خروج المرأة من منزلها مدعاة لِلفخر من قِبل أبناء ذلك المجتمع حينها.
على الرغم من الانتشار السريع والواسع لوسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الراهِن إلّا أنّها لم ولن تكون بديلًا دائمًا عن السفر. فالسَفَر مع تطوُّر وسائل النقل السريعة والمريحة -الطائرات، القطارات بمختلف أنواعها، السيارات، السفن- لم يعُدْ مجرّد تنقُل من مكان إلى آخر، بل أصبح حاجة للجميع قبل أن يكون مُتعة، إلّا أنّ الأمر كان مختلفًا تمامًا بالنسبة للإنسان السوري في رحلة لجوئه إلى أوروبا هربًا من الموت والجوع وتارِكًا خلفه الأهل والأحِبّة. إنّها سردية حزينة بِحقّ لا تقلُّ خطورة عن سفر القُدماء، لقد كان الموت بانتظار الكثير منهم قبل بلوغ الوِجهة، إمّا غرقًا في البحار أو جوعًا وبردًا في غابات أوروبا، أمّا مَن حالفه الحظ واستطاع الوصول، فقد تأكّد له صحّة المثل الذي يقول (الحجر قِنطار في مكانه) بعد أن وجد نفسه كائنًا خفيفًا خارج موطِنه الأصلي. هنا يجِد نفسه أيضًا أمام تحدّيات كبيرة كالاندماج في المجتمع وإثبات ذاته وبناء مستقبله اعتمادًا على خبرته ومهارته.
ما سبق كان عن أسفار الماضي والحاضر فماذا عن المستقبل؟ تتحدّث الأبحاث العلمية الحديثة عن إمكانية السفر عبر الزمن في المستقبل البعيد بواسطة مركبات فضائية تسير بسرعات عالية جداً، قد يبدو الأمر غريباً وعجيباً، ولكن إذا علِمنا أنّ مقدِرة العقل البشري على الإبداع لا حدود لها، فقد تمكّن الإنسان خلال العقود الماضية من صنع آلات تفوّقت عليه بدِقّة وسرعة إنجاز الأعمال الحسابية والتقنية، فلا بدّ عندئذ أنّ يزول العجب ويكبُر الأمل.