منطقة بارزان ومبادئها الثلاثة.. هل يمكن ان تغير العراق؟

 منطقة بارزان ومبادئها الثلاثة.. هل يمكن ان تغير العراق؟

أنس الشيخ مظهر

المتابع لاحاديث الرئيس مسعود بارزاني سيلاحظ انه بدا مؤخرا بالتأكيد على جوانب تمس جوهر الانسان وصفائه الاخلاقي والروحي جنبا الى جنب مع حديثه عن الشأن السياسي، وهو ليس بالأمر الغريب على شخصية تشربت من ثلاث مدارس " المدرسة الروحية، ومدرسة النضال المسلح، ومدرسة النضال السياسي" وتأثرت بجذورها الصوفية في عائلة قادت ثورة مسلحة لعقود من السنين، وتخوض اليوم ومنذ عقود نضالاً سياسياً، في منطقة مضطربة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وفي عصر غاية في تعقيداته السياسية والمجتمعية، شكلت منه شخصية قلما نجد لها نظيرا بين قادة الامم ، في الجمع بين الجانبين السياسي والوطني وتهذيبهما روحيا.
ان اشارة الرئيس مسعود بارزاني لهذا الجانب في خطاباته مؤخراً لم تأت من قبيل الصدفة، بل تنبع من شعور عالٍ بالمسؤولية، وتعبر عن بعد نظر السياسي الذي يحدد المشكلة، ويحاول ايجاد حلول مناسبة لها، ليس على صعيد كوردستان فحسب بل على صعيد العراق ككل، خاصة وانه اشار الى ذلك ايضا في مناسبة حضرها اغلب ساسة العراق الذين جاؤوا لافتتاح المتحف الوطني في منطقة بارزان، اي ان حديثه كان موجهاً لكل العراقيين الذين مروا بظروف سياسية واجتماعية وثقافية صعبة مزقت اسس التعايش بين مكوناته القومية والدينية والمذهبية، لم تعد تنفع معها الحلول السياسية فقط ، بل وجب خلق حالة ثورية اجتماعية تؤهل المجتمع العراقي ثقافيا واجتماعيا وحتى روحيا من خلال انماء روح التسامح والتعايش والصفاء الروحي بغض النظر عن الدين او المذهب الذي ينتمي اليه كل مكون، ليكون رديفا للحلول السياسية ومكملا لها، ويخلق طموحاً مجتمعياً عراقياً بإمكانية التقدم على ما يحيط بنا من مجتمعات نقدم لها تجربة رائدة. ولذلك اكد على هذه النقاط لتكون اولوية للسلم الاهلي، منطلقا من تجربة كوردية كان لأجداده من شيوخ منطقة بارزان الاجلاء الدور الرئيس في ترسيخه مستندين الى مبادئ ثلاثة وهي:
التقوى ومعرفة الله
الوطنية
الانسانية والتعايش المشترك
ان كان شيوخ منطقة بارزان قد رسخوا هذه المبادئ الثلاثة مجتمعياً، فقد نجح الخالد مصطفى البارزاني بمزج هذه المبادئ مع الفعل الثوري ونشرها لتكون نهجا تسير عليه الثورة الكوردية، وتصبح فيما بعد ثقافة لأجيال كاملة في كوردستان بمختلف قومياتها واديانها في وقت كان فيه العالم يفتقر الى منظمات دولية تتبنى هذه المبادئ مثلما هو عليه الان .
*ففي الوقت الذي كان فيه النظام الاقطاعي يعم اصقاع العالم، وكان الاصلاح الزراعي لا يتعدى ان يكون افكارا تقال هنا وهناك، تبنى شيوخ منطقة بارزان " مولانا الشيخ عبد السلام بارزاني ومولانا الشيخ احمد بارزاني" فكرة القضاء على الاقطاع وتوزيع الاراضي على الفلاحين قبل ان تتبناه حكومات العالم بعقود.
*ومنحوا المرأة مكانتها في المجتمع برفض الزواج القسري والقضاء على المهور قبل ان تتواجد منظمات تعنى بحقوق المرأة.
*ورسخوا مبدأ المساواة في المجتمع في وقت كان لا يزال فيه الرق والعبودية منتشراً عند شعوب كثيرة حتى تلك التي توصف اليوم بشعوب متقدمة، وقبل ان تتبناه منظمات حقوق الانسان في العالم بعشرات السنين.
*وعمدوا الى تشكيل لجان ومجالس في القرى والبلدات لإدارة شؤونها، في وقت كانت فيه الدولة العثمانية ومن بعدها المملكة العراقية يعانيان من سوء الادارة في هيكليتهما الرسمية الحكومية.
*وفي الوقت الذي كانت فيه مجتمعات العالم الحديث آنذاك تعاني من فوضى استخدام السلاح، وكانت حكومات العالم تتأهب للدخول في الحرب العالمية الاولى ومن ثم الثانية، تم في منطقة بارزان تنظيم ظاهرة حيازة السلاح وتحديد المسؤولين عن المسلحين وتنظيمهم.
*وفي توجه يعتبر سابق لزمانه بشكل كبير اهتم شيوخ منطقة بارزان بالبيئة، وحدوا من التلوث ومنعوا صيد الحيوانات، في بادرة تعتبر فريدة سبقت بعقود المنظمات الدولية التي تعنى اليوم بالبيئة وحقوق الحيوان ومنع الصيد.
*اما بالنسبة لإعلاء معاني الوطنية فقد تبنت منطقة بارزان مفهوم ترسيخ ارادة الوحدة بين المواطنين ومواجهة الظلم والاضطهاد، والعيش بكرامة وحرية او الموت دونه بعزة وشموخ، والوحدة بين ابناء المجتمع الواحد، سواء كان هذا المجتمع يمثل عشيرة او قومية او دولة.

وكان مولانا الشيخ احمد بارزاني يذكر دائما انه:
"ان كنتم متفقين وموحدين فبإمكانكم هزيمة العدو والتغلب على المصاعب والمتاعب وقهرها وبخلافه فستفقدون كل شيء "
كذلك كان شيوخ بارزان يؤكدون على نصرة المظلوم واحقاق الحق من خلال التأكيد على مبدا: -
" يجب ان تتمنى لأبناء غيرك ما تتمناه لابنك، ومثلما لا تحب السوء لنفسك لا تحبه للآخرين ايضا"
وكذلك:
" كونوا دائما مع المظلوم ضد الظالم، ودافعوا عنه وطالبوا بإحقاق الحق والعدالة "
* أما فيما يتعلق بالحالة الايمانية فقد حاول شيوخ منطقة بارزان نشر روح المساواة بين ابناء الاديان المختلفة، فكنت ترى المسلم مع المسيحي واليهودي متعايشين فيما يبنهم على قدم المساواة دون تمييز، في حالة ايمانية سبقت العصر، اعتمدت على رؤية معمقة للدين من حيث الجوهر، كون الدين هو الابتعاد عن السيئات والحقد والكره والبغضاء، والقيام بأعمال الخير، واصلاح ذات البين، والالتزام بالأخلاق والانسانية، والاهتمام بالقيم الانسانية العليا التي تجمع اتباع الاديان كلها فيما بينهم في بوتقة واحدة.
ان الكثير من الصفات التي يتميز بها المجتمع الكوردي ،والكثير من المواقف التي شهدتها الثورة الكوردية واصبحت مثار اعجاب الاعداء قبل الاصدقاء كانت تقف وراءها تبني الثورة الكوردية والمجتمع الكوردي هذه المبادئ، كالتمييز مثلا بين محاربتها للحكومات الدكتاتورية وبين تقوية اواصر الاخوة مع المجتمع العربي ، وعدم اقتصار مطالبها حول حقوق الكورد فقط بل المطالبة بالديمقراطية لكل الشعب العراقي، وعدم القيام بعملية تفجير واحدة في المدن العربية في العراق على مر سنوات الثورة، او في تعاملها الانساني مع الاسرى والذي سبقت وضع القوانين الدولية حول ذلك ، رغم ان الثورات عادة لا تهتم بهذا الجانب ولا هي مطالبة بذلك، كونها ليست جهات رسمية مسؤولة عن حكومات ودول ... وقد امتدت هذه الثقافة الى يومنا هذا، وتمثل بالعفو الذي اصدره الرئيس مسعود بارزاني عمن ارتكب جرائم بحق الشعب الكوردي من الكورد على مبدا عفا الله عما سلف، والكثير من التوجهات الاخرى بعد الانتفاضة.
لقد مرت الثورة الكوردية بالكثير من المفاصل الخطيرة، لكنها مع ذلك استطاعت المحافظة على التوازن بين فعلها الثوري المسلح وقضاياها الوطنية من جهة، والحفاظ على مبادئها الانسانية من جهة اخرى ، حيث لم تتخل في كل سنوات نضالها عن فكرة كونها ثورة انسانية جامعة قبل ان تكون ثورة تخص قومية معينة، لذلك نجحت في الوصول الى اهدافها رغم كل المؤامرات عليها .
عندما يشير الرئيس مسعود بارزاني الى هذه المبادئ فانه يحاول وضع التجربة الناجحة لمنطقة بارزان وكوردستان امام الاجيال العراقية الحالية التي مرت هي وأجيال عديدة سبقتها بظروف شاذة وغير صحية سياسيا واجتماعيا وثقافيا خلال قرن من الزمن، أدت الى شيوع امراض مجتمعية وثقافية اساسها التطرف ورفض الاخر، وبروز ثقافة " الانا " سواء كان الانا الفردية او المذهبية او الدينية او القومية . ويعطي لهم الامل بإمكانية القضاء على هذه الامراض واجراء تغيير حقيقي للشخصية العراقية المشوهة حاليا ، فمنطقة بارزان وكوردستان آنذاك كانا يعانيان من مختلف انواع القهر والاضطهاد، تحاربهم امبراطوريات ودول ، ورغم ذلك لم تقف الحياة عندهم، ولم يتقوقعوا في ذواتهم ، بل حاولوا الارتقاء بإنسانيتهم، ونشر مبادئ كان من الاولى ان تهتم بها شعوب اخرى مجاورة كانت تتمتع بوضع سياسي افضل منهم آنذاك .
ان مشاكل العراق الحالية لا يمكن حلها فقط بالخروج في تظاهرات ضد مظاهر الظلم والفساد التي يعاني منها المجتمع العراقي، او باللجوء الى الانقلابات العسكرية التي كانت تعم العراق في منتصف القرن الماضي، ولا بتسلط دكتاتورية جديدة عليه سواء كانت دكتاتورية فردية او دكتاتورية قومية او مذهبية ، فالتجارب اثبتت فشل كل هذه الحلول، وانما التغير الحقيقي سيكون من خلال الاهتمام بالقوة الناعمة، واعمال ثورة مجتمعية على الذات، بنشر ثقافة التسامح والتعايش والارتقاء بالمجتمع، والقضاء على الظواهر السلبية فيه "وهي كثيرة"، فالعراق يحتاج الان الى مصلحين اكثر من حاجته الى قادة سياسيين او ثوار او قادة مليشيات، والتغيير دائما يبدا من الذات.